سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قيل: سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى أنه مسحور، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم، بمثل أفعالهم وأقوالهم، فعلى هذا يكون المعنى {قل لعبادي} المؤمنين {يقولوا} للمشركين الكلم {التي هي أحسن}. وقيل: المعنى {يقولوا} أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل، فيكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري.
وقيل: عبادي هنا المشركون إذا المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل: قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا {التي هي أحسن} وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان ووسوسته وتحسينه. وقيل: عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير {التي هي أحسن} والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله {فبشر عبادي الذين يستمعون القول} {فادخلي في عبادي} عيناً {يشرب بها عباد الله}
و {قل} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أمر، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا {التي هي أحسن} وانجزم {يقولوا} على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا {التي هي أحسن}. وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف، أي إن يقل لهم {يقولوا} فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي {يقولوا} جوابه. وقال المبرد: انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول {قل} أي قولوا {التي هي أحسن} {يقولوا}. وقيل معمول {قل} مذكور لا محذوف وهو {يقولوا} على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجّاج. وقيل: {يقولوا} مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني، والمعنى {قل لعبادي} قولوا قاله المازني، وهذه الأقوال جرت في قوله {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو.
و {التي هي أحسن} قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلاّ الله.
قال ابن عطية: ويلزم على هذا أن يكون قوله {لعبادي} يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله. ويجيء قوله بعد ذلك {إن الشيطان ينزغ بينهم} غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال. وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي. وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله. وقال الجمهور: وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى. وقال الزمخشري: فسر {التي هي أحسن} بقوله: {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله: {إن الشيطان ينزغ بينهم} اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن} وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها، ثم نبه على هذا الطريق بقوله: {إن الشيطان ينزغ بينهم} جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى. وقرأ طلحة {ينزغ} بكسر الزاي. قال أبو حاتم: لعلها لغة والقراءة بالفتح. وقال صاحب اللوامح: هي لغة. وقال الزمخشري: هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى. ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله {ثم لآتينهم من بين أيديهم} الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له. والخطاب بقوله {ربكم} إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم.
{وما أرسلناك عليهم} أي على الكفار حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى الله. وقيل: {يرحمكم} بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر. وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا {ربنا اكشف عنا العذاب إنّا مؤمنون} فقال الله {ربكم أعلم بكم} بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن {إن يشأ يرحمكم} فيكشف القحط عنكم {أو إن يشأ يعذبكم} فيتركه عليكم. وقال ابن عطية: هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة، وذلك أن قوله {ربكم أعلم بكم} مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوّفهم، ومعنى {يرحمكم} بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى.
وتقدم من قول الزمخشري أن قوله {ربكم أعلم بكم} هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله {التي هي أحسن}.
وقال ابن الأنباري: {أو} دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يرد عنهما، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر. وقال الكرماني: {أو} للإضراب ولهذا كرر {إن} ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله: {ربكم أعلم بكم} انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وربك أعلم بمن في السموات والأرض} ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم، و{بمن} متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به كقولك: زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم. وقال أبو عليّ: الباء تتعلق بفعل تقديره علم {بمن} قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو. ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته. وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وخص {داود} بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم. وقال تعالى {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} وهم محمد وأمته، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا: لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى الله عليه وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به. وتقدم تفسير {وآتينا داود زبوراً} في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها.
وقال الزمخشري هنا: فإن قلت: هلا عرّف الزبور كما عرف في {ولقد كتبنا في الزبور} قلت: يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل، وأن يريد {وآتينا داود} بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسُميِّ ذلك {زبوراً} لأنه بعض الزبور كما سُمي بعض القرآن قرآناً.


قال ابن مسعود: نزلت في عَبدةَ الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم. وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه، وعنه أيضاً وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى. ويكون {الذين زعمتم من دونه} عاماً غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم. الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه. وقرأ الجمهور: {يدعون} بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنياً للمفعول، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله {قل ادعوا} أي ادعوهم لكشف الضر.
وفي قوله: {زعمتم} ضمير محذوف عائد على {الذين} وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله، و{أولئك} مبتدأ و{الذين} صفته، والخبر {يبتغون}. و{الوسيلة} القرب إلى الله تعالى، والظاهر أن {أولئك} إشارة إلى المعبودين والواو في {يدعون} للعابدين، والعائد على {الذين} منصوب محذوف أي يدعونهم.
وقال ابن فورك: الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم، والضمير المرفوع في {يدعون} و{يبتغون} عائد عليهم، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ الله ولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله.
وقرأ الجمهور: {إلى ربهم} بضمير الجمع الغائب. وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول، واختلفوا في إعراب {أيهم أقرب} وتقديره. فقال الحوفي: {أيهم أقرب} ابتداء وخبر، والمعنى ينظرون {أيهم أقرب} فيتوسلون به ويجوز أن يكون {أيهم أقرب} بدلاً من الواو في {يبتغون} انتهى. ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق، و{أيهم أقرب} في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله {فلينظر أيها أزكى طعاماً} وفي إضمار الفعل المعلق نظر، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال: وتكون أي موصولة، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى. فعلى الوجه يكون {أقرب} خبر مبتدأ محذوف، واحتمل {أيهم} أن يكون معرباً وهو الوجه، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء. قال الزمخشري: أو ضمن {يبتغون} {الوسيلة} معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، فيكون قد ضمن {يبتغون} معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى، كقوله
{إن تحرص على هداهم} وقال ابن عطية: و{أيهم} ابتدأ و{أقرب} خبره، والتقدير نظرهم وددكهم {أيهم أقرب} وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها، أي يتبارون في طلب القرب. فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت {أيهم أقرب} في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر، وإن جعلت {أيهم أقرب} هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو {أيهم أقرب} وإن جعلت التقدير نظرهم في {أيهم أقرب} أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق.
وقال أبو البقاء: {أيهم} مبتدأ و{أقرب} خبره، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون، ويجوز أن يكون {أيهم} بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في {يدعون} والتقدير الذي هو أقرب انتهى. ففي الوجه الأولى علق {يدعون} وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة {إن عذاب ربك كان محذوراً} يحذره كل أحد.
و {إن من قرية} {إن} نافية و{من} زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس، والجملة بعد {إلاّ} خبر المبتدأ. وقيل: المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة. وقال ابن عطية: ومن لبيان الجنس انتهى. والتي لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي {من} لبيان ما أريد بذلك الذي فيه إبهام ما. كقوله {ما يفتح الله للناس من رحمة} وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بياناً له، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك. وقيل: المراد الخصوص انتهى.
والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئاً فشيئاً أو تعذب والمعنى أهلها بالقتل وأنواع العذاب. وقيل: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة. وقال مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق. والرواجف، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلداً بلداً ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش. {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوباً أسطاراً {وما منعنا أن نرسل} بالآيات عن ابن عباس: أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون، اقترحوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال: «بل تستأني بهم يا رب»
فنزلت، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلاّ لتكذيب الأولين بها، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش، فالمعنى إلاّ ابتاعهم طريقة تكذيب الأولين بها، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم.
وقال الزمخشري: فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلاّ أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى.
وقرأ الجمهور {ثمود} ممنوع الصرف. وقال هارون: أهل الكوفة ينونون {ثمود} في كل وجه. وقال أبو حاتم: لا تنون العامة والعلماء بالقرآن {ثمود} في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤها بغير ألف انتهى. وانتصب {مبصرة} على الحال وهي قراءة الجمهور. وقرأ زيد بن عليّ {مبصرة} بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس، والتقدير آية مبصرة. وقرأ قوم: بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها. وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله:
والكفر مخبثة لنفس النعم ***
أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة، وقالوا: الولد مبخلة مجبنة {فظلموا بها} أي بعقرها بعد قوله {فذروها تأكل في أرض الله} الآية. وقيل: المعنى أنهم جحدوا كونها من عند الله. وقيل: جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة. وقال الحسن: والموت الذريع، وفي حديث الكسوف: «فافزعوا إلى الصلاة» قال ابن عطية: وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيث ما وضعت نظرك وجدت آية. وهنا فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهماً لما سلف منه انتهى. وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة.
وقال الزمخشري: إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها {إلاّ تخويفاً} من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم، وإن أراد غيرها فالمعنى {وما نرسل} ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها {إلاّ تخويفاً} وإنذاراً بعذاب الآخرة. وقيل: الآيات التي جعلها الله تخويفاً لعباده سماوية كسوف الشمس، وخسوف القمر، والرعد، والبرق، والصواعق، والرجوم وما يجري مجرى ذلك. وأرضية زلازل، وخسف، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم.


لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه، وقالوا: لو كان رسولاً حقاً لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه {أحاط بالناس}. فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه. وقيل: بقدرته فقدرته غالبة كل شيء. وقيل: الإحاطة هنا الإهلاك كقوله {وأحيط بثمره} والظاهر أن الناس عام. وقيل: أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم، و{أحاط} بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم. قيل يوم بدر. وقال العسكري: هذا خبر غيب قدمه قبل وقته، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثأرهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً. وقيل: يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم. وقال الطبري: {أحاط بالناس} في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحداً من المخلوقين. قال ابن عطية: وهذا تأويل بين جار مع اللفظ. وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلاّ أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده توطئة له.
فأقول: اختلف الناس في {الرؤيا}. فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار: إن هذا لعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} أي في إضلالهم وهدايتهم، وإن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤياً إذ هما مصدران من رأى. وقال النقاش: جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم: هو قصة الإسراء والمعراج عياناً آمن به الموفقون وكفر به المخذولون، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام. وعن ابن عباس أيضاً هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنته الحديبية ورد فافتتن الناس، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت.
وعن سهل بن سعد: هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس. ويجيء قوله {أحاط بالناس} أي بأقداره وإن كان ما قدّره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك.
وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. وقالت عائشة: {الرؤيا} رؤيا منام. قال ابن عطية: وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى. ولبس كما قال ابن عطية: فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك. وقال صاحب التحرير: سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال: ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدراً أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم. {والشجرة الملعونة} هنا هي أبو جهل انتهى.
وقال الزمخشري: ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يرمئ إلى الأرض ويقول: «هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان». فتسامعت قريش بما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر بدر وما أُرِي في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء. وقيل: رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى. والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها. فقال ابن عباس: هي الكشوث المذكورة في قوله {كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} وعنه أيضاً: هي {الشجرة} التي تلتوي على الشجرة فتفسدها. قال: والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن. وقال الجمهور: هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها. قال أبو جهل وغيره: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلاّ التمر بالزبد، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه: «تزقموا» فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء.
قال الزمخشري: وما أنكروا أن يجعل الله {الشجرة} من جنس لا تأكله النار، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها.
والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفاً للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلاّ فتنة لهم حيث اتخذوه سخرياً وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال {ونخوفهم} أي بمخاوف الدنيا والآخرة {فما يزيدهم} التخويف {إلاّ طغياناً كبيراً} فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى. وقوله بعد الوحي إليك هو قوله {سيهزم الجمع ويولون الدبر} وقوله {قل للذين كفروا ستغلبون} والظاهر إسناد اللعنة إلى {الشجرة} واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون.
قال الزمخشري: وسألت بعضهم فقال نعم الطعام الملعون القشب الممحون. وقال ابن عباس: {الملعونة} يريد آكلها، ونمقه الزمخشري فقال: لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى. وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها. وقال قوم {الشجرة} هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل. وقيل هو الشيطان. وقيل مجاز عن جماعة وهم اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثة الرسول عليه السلام، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيراً من الناس بمقالتهم عن الإسلام. وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام، ولعنها في القرآن {ألا لعنة الله على الظالمين} إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور: {الشجرة الملعونة} عطفاً على {الرؤيا} فهي مندرجة في الحصر، أي {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} {والشجرة الملعونة} في القرآن {إلاّ فتنة للناس}. وقرأ زيد بن عليّ برفع {والشجرة الملعونة} على الابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة، والضمير في {ونخوفهم} لكفار مكة. وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً» والأول أصوب. وقرأ الأعمش: ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8